الاتصال ضرورة إنسانية واجتماعية وحضارية.. وعملية حياتية ديناميكية.. بدونه لا يعيش الإنسان ولا ينمو ولا يتطور.. ولولاه لما وجدنا عالم اليوم بالشكل الذي نراه بكل ما فيه من حضارات وثقافات وعلوم وتجارب.. وهو بالصوت وبالرمز, وبالحرف, وبالإشارة, وبالكلمة.. وبكل ما يمكن أن ينقل تجربة أو رسالة من شخص إلى آخر ومن شخص إلى جماعة ومن جماعة إلى أخرى.
فما موقع الكلمة كوسيلة من وسائل الاتصال في الفكر الإسلامي؟ وكيف استطاع النبي-صلى الله عليه وسلم- بواسطة اللفظ أن يغير الاتجاهات الفكرية والأنماط السلوكية غير المرغوبة إلى اتجاهات وأنماط سلوكية مرغوبة ويبني بذلك علاقات إنسانية متينة كتبت لها الديمومة والاستمرارية إلى قيام الساعة؟.
هذا ما سأتناوله بالبحث في هذه المداخلة؛ وذلك من خلال تحليل لمحتوى خطبة الرسول- صلى الله عليه وسلم- الشهيرة في حجة الوداع, محاولة إبراز واستنباط ملامح فعالية اتصاله- صلى الله عليه وسلم- اللفظي وإظهار ما يمتلكه- صلى الله عليه وسلم- من مهارات الاتصال المتنوعة التي كان لها الأثر الكبير في بناء صرح العلاقات الإنسانية، هذه المهارات التي يحتاج إليها كل مدير أو رئيس منظمة مع مرؤوسيه، وكل قائد جماعة مع جماعته.
من منطلق كون الرسول- صلى الله عليه وسلم- صاحب رسالة سماوية مدعم بالوحي فإنه ذو إدراك يسمح له بانتقاء الكيفيات والكلمات التي ستكون بالغة الأثر في الجمهور حيث:
1- أنه صلى الله عليه وسلم انتقى مكانًا ذا هيبة وهو جبل عرفة ووقتًا عظيمًا هو موسم الحج وركن الوقوف بعرفة، مما يفهم منه على أنه يريد أن يبلغ رسالة عظيمة، وفي ذلك (استثارة الانتباه) (تنبيه حسي بصري).
2- أعطى المجال الزمني الكافي حتى ينتبه جمهور الحاضرين من الحجاج.
3- بدأ- صلى الله عليه وسلم- خطبته بقوله:
"أوصيكم عباد الله", فنجده في هذه العبارة اللفظية قد جمع كل الجمهور تحت لوائه بطريقةٍ ذكيةٍ وبسيطة بغض النظر عن درجات إيمانهم
- كما تدل هذه العبارة على إدراك الرسول- صلى الله عليه وسلم- للطبيعة النوعية للجمهور الذي أمامه، فهو جمهور رغم عدم تجانسه التام (لوجود فروقات في العمر والذكاء و..) إلا أنه ذو اتجاه ديني واحد، وذو هوية محددة فهو جمهور مسلم مؤمن بما يدعو إليه الرسول- صلى الله عليه وسلم-
- ثم أردف ذلك بقوله "بتقوى الله"، إذ نجده دون إطالة أعطى ملخص الرسالة مباشرةً حتى لا يشتت انتباه الحضور، وفي ذلك تحديد للموضوع، وتحديد للهدف في وضوح ودقة، حيث أعطى الكلمة الملائمة مباشرة "تقوى" بما تتضمنه من حث على الطاعة وتجنب المعصية.
6- ثم ينتقل الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى صميم موضوع الرسالة فيعمد إلى جعل البناء اللفظي للخطاب عام غير خاص، يتعدى الجمهور الذي أمامه إلى أجيال لاحقة غير معينة؛ ذلك أنه بصدد وضع مبادئ تنظم حياة الجمهور الذي أمامه وحياة الأجيال القادمة بلا استثناء؛ لذلك كان التكرار في قوله: "أيها الناس" تأكيدًا لهذا التعميم.
7- وعند مباشرته- صلى الله عليه وسلم- في تحليل مضمون الرسالة يقول "اسمعوا مني أبين لكم لعلي لا ألقاكم بعد عامكم هذا في موقفي هذا", فنجد هذه العبارة ترفع من مستوى التنبيه لدى الجمهور مما يجعل ما يليها ذا قيمة أعلى يتطلب تفرغًا ذهنيًّا ونفسيًّا كاملين لاستقبال هذه الرسالة
وكانت رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم تمس عدة محاور منها:
أولاً: محور العلاقات الإنسانية على المستوى الاجتماعي:
فقد حرص الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن تكون الرسالة مما يهدف إلى تحقيق الأمن والاطمئنان للفرد والأمة ويتجلى هذا في:
- حرمة الدم والمال والعرض:
في قوله صلى الله عليه وسلم : "
إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام" فهذه العبارة تبعث على الشعور بالراحة النفسية لأي فرد سيقرر العيش في المجتمع الإسلامي
- قضية أداء الأمانة:
وبعد المؤشر السابق رصد الرسول- صلى الله عليه وسلم- بُعدًا اجتماعيًّا آخر لا يقل أهميةً عن سابقه، مما يضمن سلامة العلاقات الاجتماعية بين الناس، وهي قضية أداء الأمانة، فهي تظل مطلبًا جمعيًّا ملحًا في ضمان سلامة العلاقات الإنسانية وقوتها.
- تحريم الربا:
فمن مبدأ سلامة التعامل من واقع صدق العلاقة بدأ الرسول- صلى الله عليه وسلم- الحوار حول النموذج الاقتصادي فيعلن تحريم ربا الجاهلية على إطلاقه تأكيدًا لمدلول النص القرآني
ثانيًا: محور العلاقات الإنسانية على المستوى الأسري.
ولضمان الراحة النفسية لجمهوره, توقف الرسول- صلى الله عليه وسلم- عند جوهر العلاقات الإنسانية عبر كل مستوياتها من أوسعها مجالاً وهو مفهوم الأمة إلى أشدها ضيقًا وهو مستوى الأسرة, وهنا تتجلى مهارة الرسول- صلى الله عليه وسلم- في استقرائه لكل شئون جمهوره ما عظم منها وما صغر.
أ- موقع الزوجين في بناء الأسرة: فعمد إلى توزيع الأدوار بما يتلاءم والفطرة الإنسانية والرسالة العظيمة المنوطة بهما.
ب- موقع المرأة في بناء الأسرة: وفي موضع آخر يقف الرسول- صلى الله عليه وسلم- على موقع المرأة من الكيان الأسري, مما يتطلب أن يضع لها قانونًا يضمن لها تجاوز مراحل الابتذال والمهانة, فنص صلى الله عليه وسلم على الشروط, وحدد المعطيات التي تضمن للمرأة بأن تلعب دورها الاجتماعي على أكمل وجه
ثالثًا: محور العلاقات الإنسانية العامة:
1- إبطال شأن العصبيات وتأكيد منطق الأخوة: وفي الإطار الإنساني العام يؤكد الرسول- صلى الله عليه وسلم- منطق الأخوة في الإسلام ويبطل شأن العصبيات ورابطة الدم لتحل محلها الرابطة الروحية الجديدة، ففي النص القرآني
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (الحجرات: من الآية 10) ما يجمع الكثير من المعاني الإنسانية المطلقة
2- الإرشاد إلى الالتزام بمصدر التشريع الصحيح ونبذ العودة إلى الصراعات الجاهلية
الخاتمة:
هذه بعض المحطات والإشارات في هذه الرسالة ذات مباني لفظية لغوية ولكنها مليئة بالمحتوى الإنساني فهي كانت وستبقى وسيلة اتصال مثلى لنمذجة الفرد وإعداده ليكون ذا ميول إيجابية في مجتمعه فيصنع النجاح في الحياة دون أن ننسى الطابع الديني الذي جاءت من أجله, ومنه استنتج بعض ملامح فعالية هذا الاتصال اللفظي الشفوي الشخصي الجماهيري؛ وذلك من خلال امتلاك الرسول- صلى الله عليه وسلم- لمهارات اتصالية فعالة تتجلى فيما يلي:
1- مهارة الرسول- صلى الله عليه وسلم- في التعرف على طبيعة ونوعية الجمهور المرسل إليه.
2- مهارة الرسول- صلى الله عليه وسلم- في تحديد الموضوع بدقة وإدراكه بوضوح للهدف من رسالته.
3- بساطة الحديث ودقة العرض عند الرسول صلى الله عليه وسلم.
4- مهارة الرسول- صلى الله عليه وسلم- في انتقاء الألفاظ الدالة فعلاً على المعنى وفي التحديد الدقيق للمعلومات والبيانات.
5- استشعار الرسول- صلى الله عليه وسلم- لحجم مسئوليته واعتماده على الحجة في الإقناع.
6- الصدق والإخلاص في تبليغ الرسالة وتوضيحها للجمهور.
آن شآءآللهـ يحوز عـ رضآكم